فصل: فكرة نظام المحلفين في القوانين الوضعية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة بالديمقراطية والنظم القانونية



.فكرة نظام المحلفين في القوانين الوضعية:

من المعروف لدى المختصين والمتابعين أنه بعد أن استقر نظام المحلفين في إنجلترا منذ وقت طويل انتقل منها إلى الولايات المتحدة حيث أقر دستورها الصادر عام 1787م حق المتهم في المحاكمة بواسطة محلفين كما هو منصوص عليه في الفقرة الثانية من المادة (3) على أن المحاكمة في جميع الجرائم فيما عدا المحاكمات البرلمانية تتم بواسطة المحلفين.
أما وظيفة المحلفين فيقول الدكتور محمد كامل عبيد: لعل تسمية المحلفين بقضاة الواقع تكشف بوضوح عن وظيفتهم التي يراد بها التفرقة بينهم وبين قضاة القانون، وقد عبر عن تلك القاعدة بمسائل الواقع للمحلفين ومسائل القانون للقاضي.
ويمكن القول بأنه ومن خلال هذه القاعدة أن وظيفة المحلفين هي تحديد وقائع القضية وفقاً لقواعد التفكير المنطقية والقانونية، وتتكون هيئة المحلفين من اثني عشر محلفاً، ولا يجوز أن يقل عدد الهيئة أو يزيد عن ذلك ويعتبر هذا عنصراً أساسياً من عناصر تكوين هيئة المحلفين في النظام الأنجلو أمريكي وتختار هذه الهيئة بالاقتراع السري من جماعة المحلفين الواردة أسماؤهم بجدول المحكمة، وعادة ما يتم اختيار أكثر من اثني عشر محلفاً حتى إذا طعن في أحدهم أو بعضهم بقي العدد القانوني متوفراً.
أما واجبات المحلفين وحقوقهم كما ذكرها الدكتور عبيد نقلاً عن الدكتور محمد شادي عبدالحميد والدكتور عبدالرحمن عزوز أن المحلف يجب أن يؤدي يميناً قبل ممارسة عمله بأن يكون قراره مطابقاً لضميره كما يجب عليه الحضور في الزمان والمكان المحددين لجلسة تحليفه وعليه الامتناع عن أي عمل يتنافى مع مهمته كالاتصال بالخصوم أو الجمهور أثناء المحاكمة ويتمتع المحلف بالحصانات التي يتمتع بها القضاة، كما أن له الحق في توجيه الأسئلة والحق في تدوين ملاحظاته أثناء الترافع وعادة ما يتم اختيار المحلفين من بين المواطنين العاديين الذين ليس لهم صفة عامة والمدرجين في قوائم خاصة لهذا الغرض تحت إشراف السلطة التنفيذية وفقاً لقانون المحلفين في إنجلترا الصادر في عام 1922م والمعدل بالقانون الصادر عام 1945م وعام 1949م إلا أن تعديلاً جذرياً في بريطانيا صدر عام 1971م قد حدث، وبمقتضاه أصبح اختيار المحلفين أمام محكمة التاج أو المحكمة العليا أو محاكم الإقليم يتم تحت إشراف رئيس القضاة.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية يتم إعداد قوائم المحلفين بمعرفة موظفين معينين أو منتدبين لهذا الغرض وقد ترك قانون المحلفين الاتحادي الصادر عام 1968م للقاضي وضع الخطة التي يرى اتباعها بشأن وضع أسماء المحلفين.
أما الشروط التي ينبغي توافرها في المحلف فإن القانون الاتحادي قد نص على أن أي مواطن في الولايات المتحدة الأمريكية يعد صالحاً للخدمة كمحلف بشرطين هما أن يكون قد بلغ الحادية والعشرين من عمره وأن يكون قد أقام لمدة عامين في الدائرة على الأقل ويستثنى من هؤلاء الأشخاص التالية:
1- كل من أدين من محكمة في محاكم الولاية.
2- من لا يستطيع القراءة والكتابة والتحدث والفهم باللغة الإنجليزية.
3- من كان غير قادر بسبب مرض جسماني أو عقلي على الخدمة كمحلف بطريقة فاعلة.
ويرى المؤيدون لنظام المحلفين أن في هذا النظام تحقيقاً لمبدأ ديمقراطي في تمثيل الشعب في كافة سلطات الدولة، فليس أقرب للعدالة في رأيهم من أن يحاكم الإنسان من بين نظرائه وبمعرفتهم من سائر المواطنين الذين لا يضمرون له أي كراهية أو تحيز، ويرون أن هذا الإحساس يعطي الفرد قناعة بأنه سوف يعامل بنزاهة وعدالة، كما يرى أنصار هذا المذهب أو النظام أن تجدد المحلفين باستمرار وتنوعهم يجعلهم لا يتسمون بطابع الجمود المهني الذي كثيراً ما يؤدي بالقضاء إلى الوقوع في الأخطاء؛ لأن أعظم أهداف المجتمع هو إقامة العدالة والإخاء والمساواة، ولا يتم ذلك إلا بكفالة قضاء محايد يحمي الحرية والملكية، وإذا وضعت هذه السلطة بأيدي قضاة متخصصين ومنتقين من الصفوة ويمثلون الأقلية في المجتمع فإن قراراتهم على الرغم من سلامتها الفنية ستكون منحازة بصورة غير إرادية نحو مصالح طبقتهم، ومن ثم فإن قضاء المحلفين الذين يمثلون كل طبقات المجتمع يكون أقدر على تحقيق العدالة وحماية الحرية وصيانة الملكية.
والحال أن نظام المحلفين وإن كان في الواقع يشكل درعاً وسياجاً منيعاً يحمي أعراض القضاة ووظائفهم من الطعن فيهم بالتعصب أو الجهل أو الانحياز لطائفة من الناس أو الطعن بالرشوة أو غير ذلك، إلا أنه يؤدي أيضاً إلى البطء في التقاضي وإلى الالتواء على أدلة الإثبات التي حددتها الشريعة الإسلامية والقوانين المستمدة منها، ومن ثم التأثير على قناعة القاضي التي يجب أن تبنى من خلال ما يعرض عليه في مجلس قضائه من أدلة ومن ثم الحكم على خلاف مقاصد الشريعة الإسلامية أو بغير الأدلة التي يجب على القاضي العمل بها، ولئن كان من أهداف نظام المحلفين هو تمثيل الشعب على الصفة القانونية الذي اختارها ذلك النظام؛ إلا أننا نجد نظام الشورى في القضاء الإسلامي الذي يستمد من قول الحق تبارك وتعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} وقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما تشاور قوم إلا هُدُوا لأرشد أمرهم» يؤدي نفس ذلك الغرض من المشاركة الشعبية لأهل الخير والصلاح والفضل والتقوى دونما تأثير على القاضي في إعمال الأدلة إذ الكل ملزمون بها ديانة وعقيدة وشريعة سواءً كان المشير في وزن الأدلة التي ترد إلى مجلس القضاء أو في فهم النص الواجب التطبيق، لأن الرأي الواجب الأخذ به والذي ينبغي للقاضي أن يحتاط لنفسه ولغيره ممن وضعت قضاياهم بين يديه إنما هو الرأي الذي يؤخذ من الشريعة الإسلامية ويتوافق مع جزئياتها وجزئيات وكليات القانون المستمد منها لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} كما أن الاستشارة تثري الموضوع الذي يستشار فيه بالآراء السليمة والصحيحة وتطلع في غالب الأحوال المستشير على ما قد يغيب عن ذهنه وتوصله إلى القناعة التامة التي يكون بها قد أرضى الحق سبحانه وتعالى وأرضى الخلق وأقام الحق وتدفع عنه أيضاً تهمة المحاباة والعصبية والجهل، كما أنها تدفع إلى تتبع وجه الحق وتتبع الأحكام والآثار التي تقربه إلى الصواب والحق وتضيف إلى معلومات القاضي وفقهه معلومات فقهية ومعرفية لم يكن يعلمها لولا التشاور فتكون له قوة في رأيه وسبيلاً إلى نيل الظفر في الحكم بالحق.

.المبحث الرابع: الشورى في الحرب:

إن من أهم القواعد الأساسية التي يقوم عليها النظام السياسي الإسلامي هو احترام مبدأ الشورى في الشئون العامة ومن ذلك الشورى في الحرب فهي ضرورة لاستجماع الرأي، فإشراك الأمة في أمور الحرب أدعى إلى اجتماعها ووحدة الكلمة، ففي غزوة بدر الكبرى بعد أن علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم خبر قريش ومسيرهم إليه ليمنعوا عيرهم استشار الناس وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال: وأحسن، ثم قام المقداد بن عمر فقال: يا رسول الله امضِ إلى ما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيراً ودعا له، ثم قال: «أشيروا علي أيها الناس»- وإنما يريد الأنصار- فقال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله فقال: «أجل». قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامضِ يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبرٌ في الحرب صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله. فسُر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقول سعد ونشطه بذلك، ثم قال: «سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين».
وحكى ابن هشام في السيرة ما رواه ابن إسحاق في مشاورة الحباب بن المنذر في بدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ الرسول بذلك. قال إن الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة». فقال: يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء بالقوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماءً ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لقد أشرت بالرأي». فنهض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من الناس فسار حتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقُلُب فغُورت وبنى حوضاً على القليب الذي نزل فملأه ماءً ثم قذفوا فيه الآنية.
ومن ذلك ما رواه ابن هشام عن ابن إسحاق في إشارة سعد بن معاذ قال يا نبي الله ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ونعد عنك ركائبك ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حباً منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك، فأثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيراً ودعا لهم بخير ثم بني لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عريشُ فكان فيه. ثم لما انتهت غزوة بدر الكبرى بانتصار المسلمين على المشركين وقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين آخرين، ولم يكن الحكم الشرعي في الأسرى قد نزل استشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل بدر في الأسرى فظهرت ثلاثة آراء:
الرأي الأول أن تؤخذ الفدية من الأسرى وبه قال معظم أهل بدر وفي مقدمتهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقد ذكر أصحاب السير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاور أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في شأن أسرى بدر فقال أبو بكر: يا نبي الله هؤلاء بنو العم والعشيرة أرى أن نأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذنا منهم قوة وعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام فيكونوا لنا عضداً، وفي لفظ أرى أن تأخذ منهم الفدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمر بن الخطاب: «ما ترى يا ابن الخطاب؟» فقال عمر: لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكن أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه وتمكنّي من فلان نسيباً له فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها.، أما الرأي الثاني فهو رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي ورد في الحديث السالف ذكره وهو عدم قبول الفدية وضرب أعناق الأسرى، ولم يوافقه أحد من أهل بدر على هذا الرأي، أما الرأي الثالث فهو رأي عبدالله بن رواحة الذي رأى أن يقتلوا الأسارى حرقاً وهذا الرأي لم يشاركه أحد من أهل بدر فيه، وقد قال رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنت في واد كثير الحطب فأضرم الوادي عليهم ناراً ثم ألقهم فيه. وبعد أن استمع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما قال أبو بكر وعمر وعبدالله بن رواحة ورأى أن أكثرية الناس مالت إلى رأي أبي بكر رضي الله عنه قال: «إن الله ليلينن قلوب الرجال حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة»، ولما رأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الأغلبية أخذ الفداء مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه مال إليه وقال: «أنتم عالة ولم يبقين أحد إلا بفداء أو بضربة عنق».
وقد نزل القرآن في هذه الآية موافقاً لرأي عمر رضي الله عنه وهو قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ}، والذي يستفاد من الشورى في غزوة بدر هو الأمور التالية:
1- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاور الحضور جميعاً خاصة الأنصار لأنهم خرجوا مع الرسول من ديارهم في تلك الغزوة ولم يكن بين النبي وبين الأنصار عهداً على الخروج للقتال معه، وقد جاء في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخشى أن تكون الأنصار لا ترى وجوب نصرته عليها إلا مما داهمه من العدو بالمدينة فقط، ويضاف إلى ذلك أن استطلاع رأي الجمهور ووحدة كلمتهم ومعرفة آرائهم والأخذ برأي الأكثرية ضرورة لا بد منها.
2- استجابة المهاجرين والأنصار ومشاركتهم في القتال يداً واحدة وقوة وكتلة واحدة مما يدل على عمق الإيمان، وهذا ما يرشد إلى وجوب التوحد في الرأي عند حصول أمر يكون القتال فيه ضرورة.
3- أن الشورى وإن كانت في ميدان المعركة والقتال إلا أنها ضرورة لا بد منها، والمسائل التي دار فيها التشاور أفراداً وجماعات هي أمور ليس فيها نص شرعي لا سبيل للاجتهاد وإعمال الرأي فيه وستبقى كل هذه الأمور اجتهادية عدا الحكم في الأسرى فإن الحكم الشرعي فيه استقر على أن يخير (الإمام) رئيس الدولة أو ملكها بين القتل أو المن أو الاسترقاق ويكون بحسب الأحوال والظروف بعد الاستشارة كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
4- أن رأي الأغلبية هو الذي ينبغي أن يؤخذ به اقتداءً بالهدي النبوي.
5- أن رأي الجند أو رأي المتخصصين في العلوم العسكرية يجب أن يؤخذ به، ولا غضاضة في ذلك أخذاً من هديه صلى الله عليه وآله وسلم فقد أخذ برأي الحباب بن المنذر في الموقع الذي اختاره في بدر وأشار بالرحيل منه وفي هذا إشارة لقواد الجند في أن يسمعوا ويصغوا لكل الآراء حتى يستفيدوا منها.
6- أن رأي الأغلبية يؤخذ به في الحرب والأمور العامة تجنباً للخلاف والتنازع الذي يعرض الجند والدول للفشل، فها هو رأي الأغلبية في فداء أسرى بدر لا يوافقه القرآن ووافق رأي عمر رضي الله عنه، ولكنه مع ذلك بقي رأي الأغلبية هو الرأي الملزم، والحكمة في الأخذ برأي الأغلبية هو منع التنازع والاختلاف وفيه أيضاً سد ذريعة الاستبداد وحرمان الأمة من الشورى، ولهذا فإن القرآن أجاز للمقاتلين في هذه الغزوة الانتفاع بما أخذوه من فداء حتى وإن كان اجتهاداً غير مستساغ أو غير راجح أو غير موافق للرأي السديد فأنت ترى في هذه الغزوة أن القرآن رغم معاتبتهم إلا أنه أتاح لهم الأكل والانتفاع بما أخذوه من فداء الأسرى إذا يقول الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
7- أن التصويت مع الاختلاف في الرأي في أمر الشورى جائز، فللإنسان أن يبدي رأيه وإن خالف رأي الأكثرية، غير أن الأكثرية إذا اتخذت موقفاً سواءً في القتال أو غيرها وصوتوا عليه وجب على الجميع أن يأخذوا به وأن لا يجعلوا من ذلك ذريعة للتنازع بل يجب عليهم أن يعتصموا بحبل الله جميعاً. غير أنه يجوز في موضوع الشورى أنه إذا قام بها البعض سقطت عن البعض الآخر إذا كانوا في حكم الموافقين عليها، أي أنه يجوز النيابة في ذلك. والذي يستفاد من القصة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجه الخطاب العام للذين خرجوا ليعترضوا طريق القافلة يستشيرهم جميعاً، وأن الذين أشاروا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم زعماء المهاجرين والأنصار، وأن أغلبية القوم الذين خرجوا للقتال قد سكتوا، وأن البعض لربما كان كارهاً للقتال. وكتب السيرة النبوية لم تنقل لنا غير أقوال رءوس المهاجرين والأنصار ونفر من المجادلين ذكرهم القرآن وقد دخلوا المعركة مع رسول الله وانضموا إليه وقاتلوا معه فرضي الله عنهم أجمعين. وإن كان ليس بالضرورة أن يتكلم الثلاثمائة والثلاثة عشر مقاتلاً وهم الذين كانوا برفقته صلى الله عليه وآله وسلم؛ إلا أنه وبلا شك أن هناك من كان يكره القتال ولكنه آثر حب الله ورسوله فكانت يده مع يد الجماعة يقاتل راضياً مختاراً بمعنوية مرتفعة، وقد دل على ما أشرنا إليه قول الحق: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ}، ودخل النفر القليل فيما دخل فيه الأغلبية، قال تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إلى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}
وهذه الشواهد التي سقناها تؤيد بوضوح رأي من قال بأن الشورى ملزمة وليست بمعلمة وسنأتي على مزيد بيان عند حديثنا عن إلزامية الشورى في الأمور العامة.